الحرية والعدالة والنور العصبية الحزبية المتجذرة في ساحة العمل الإسلامي ظاهرة مؤذية:
أذهبت ريح الدعوة، وأثقلت صفوف الدعاة بالتدابر والتنازع، وقلَّ من يَسْلم منها؛ حتى بعض الناس الذين لا ينتمون إلى تجمعات حزبية.
نعم! ربما تكون هناك مسوغات فكرية أو منهجية تؤدي أحيانًا لمثل هذه الخلافات، لكن الواقع يشهد أيضًا خلافات أخرى ليس لها تفسير مقنع إلا الهوى والتعنت والتعصب!
وقد كُتِبَ في هذا الموضوع كتابات عديدة ومفيدة، وتنادَى لعلاجها الناصحون.
وأحسب أننا أمام قضية كبيرة لا يمكن معالجتها بالتباكي وإلقاء التبعة والملامة على الآخرين، لكننا في حاجة ماسَّة للبحث عن الحلول العملية التي قد تُسهِم في التخفيف من حدة الخلاف؛ إن لم تقتلع جذوره.
ولا أقل من أن تزيل بعض مظاهر البغي أو الاحتقان والجفوة.
ومن المقترحات التي أضعها بين يدي الدعاة الكرام ما يلي:
أولًا: التواصل الأخوي:
جزء كبير من الجفوة الحاصلة بين الدعاة إنما هو بسبب الإعراض والقطيعة وتناقُل الكلام بين الأتباع؛ فإذا حرصوا على التزاور وأداء الحقوق الشرعية الواجبة: كإجابة الدعوة وزيارة المريض... ونحو ذلك؛ كان هذا سببًا في الأُلفة والأُنس.
ومثل هذه اللقاءات ليست مضيعة للوقت أو إهدارًا للجهد؛ كما قد يظن بعضهم، بل فيها من المصالح الدعوية العاجلة والآجلة ما يَجِل عن الوصف، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ليس الواصل بالمكافئ"[1].
وكثير من أحكام الناس على الآخرين ناتجة في بعض الأحيان عن انطباعات متناقَلة، أو وقيعة معترضة، أو فظ يتجاهل الإنصاف، وهو ما قد يتحول إلى مجازفات أو تعميمات لا تتسم بالموضوعية أو الإنصاف.
لكن حين يجلس الدعاة مع إخوانهم، ويسمعون منهم مباشرة وبدون واسطة، ويبذلون لهم النصيحة بصدق وإشفاق.
ويديرون حوارًا راشدًا وهادئًا... تتضح لهم منطلقاتهم واجتهاداتهم؛ فيشيع بذلك حُسْن الظن والتماس العذر، وليس من الضروري أن يحصل الاتفاق في جميع الاجتهادات.
ولم أرَ لردِّ قالة السوء وتناقُل الشائعات في حق العلماء والدعاة، مثل اللقاء والتواصل المباشر؛ فهما البلسم الذي يشفي القلوب ويقطع سبل الشيطان، وهذا من الدفع بالتي هي أحسن المأمور به شرعًا.
قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].
ثانيًا: المشاريع المشتركة:
التعاون في تنفيذ مشاريع دعوية مشتركة، مع الحرص على الوضوح والشفافية والضبط الإداري والمالي عند التنفيذ؛ حتى لا تكون الأخطاء اليسيرة سببًا للتهارش والتدافع.
ومن ذلك: عَقْد الندوات أو المؤتمرات أو الدورات التدريبية... ونحوها. وهذه الأعمال المشترَكة فرصة كبيرة للتعارف، وكَسْر حاجز الجفوة.
لقد وجدت أن الأعمال الدعوية المشتركة تبني من معاني الإخاء والمودة بين الدعاة ما لا يخطر على بال.
كما أن الطلاب والأتباع عندما يتابعون هذه البرامج المشتركة وينظرون إلى اجتماع الرموز الدعوية وتعاونها.
فإن ذلك يكون سببًا في امتصاص بعض الاحتقان الذي قد يطغى في بعض الأحيان بينها؛ والقدوةُ لها أثر في التربية كبير.
وهناك عدة عوامل تساعد على إنجاح هذه المشاريع المشتركة من المهم استصحابها والحرص عليها، منها:
1- اختيار نوعية خاصة من الدعاة والرموز لمثل هذه الأعمال، من أهم ما يتميزون به: الأَرْيَحِيَّة والتطاوُع وسَعَة الصدر والقدرة على احتمال الآخرين واستيعاب اجتهاداتهم وآرائهم.
والشخصية التوافقية السمحة لها أثر كبير في لَمِّ الشعث، وتطهير القلوب، وتقريب النفوس.
كما أن الإنسان الحاد اللجوج المماري لن يجني إلا الخصومة، وهذا أحد مقتضيات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تطاوعا ولا تختلفا"[2].
2- الحرص في المشاريع المشتركة على استدعاء جوانب الاتفاق، وتجنُّب إثارة مسائل الاختلاف قَدْر الإمكان. وأحسب أن هذا مدخل مهم للتآلف وترسيخ أواصر الأخوة والتعاون.
ومجالات الاتفاق كثيرة جدًّا، ويمكن أن نبني من خلالها صروحًا من التعاون الجاد والمثمر، ومن ذلك-مثلًا-:
(التعاون في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن المسجد الأقصى، وحماية الأخلاق من طوفان الرذيلة...) ونحوها كثير، ولله الحمد.
3- ينبغي أن يكون التعاون بادئ الأمر في المشاريع قصيرة المدى، من أجل تعزيز الثقة والطمأنينة، وبناء جسور التواصل والتكاتف...
وإذا لاحت بوادر الاختلاف، فعلى العقلاء أن يبادروا إلى درئه قَدْر الإمكان؛ حتى ولو أدى ذلك إلى تأجيل التعاون.
ولعل ذلك من دلائل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم؛ فإذا اختلفتم فقوموا عنه"[3].
4- الأعمال المشتَركة لا يمكن أن تنجح على الإطلاق إذا عُرِضت على الآخرين بمنطق المشيخة والأستاذية، أو بروح الوصاية والاستعلاء.
والطريق الصحيح للنجاح يتحقق بالحرص على الموضوعية والإنصاف، والعبرة ليست بأن يتقدَّم فلان أو يتأخر فلان، وإنما العبرة بمن يحقق الهدف الدعوي المشترك في أمثل صورة.
وما أجمل قول الإمام الشافعي: (ما كلَّمت أحدًا قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه)[4]!
وأحسب أن التسابق على التصدر، والتدافع على الظهور، من أعظم أساب الاختلاف في الأعمال المشتركة.
وقد تنبَّه الفضيل بن عياض إلى هذا وهو يقول: (ما من أحد أحب الرياسة إلا حَسَد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكَر أحد بخير)[5].
5- من المهم إعطاء الطرف الآخر قَدْره ومكانته اللائقة به، والتعامل معه بما يحفظ له هيبته، بلا تكلُّف ولا تصنُّع.
كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزل الناس منازلهم"[6].
والبحث عن الكمال المطلق فيمن نتعاون معهم متعذر، لكن العبرة بكثرة المحاسن وغلبة المحامد، (والمنصف من اغتفر قليلَ خطأ المرء في كثير صوابه)[7].
خلاصة الأمر: إن بناء أرضية مشتركة تجتمع في رحابها القوى الدعوية الفاعلة بتآلف وتكامل، سيحقق نقلة نوعية في رؤيتنا وبرامجنا الدعوية، وسيؤسس لقاعدة صلبة من الإخاء والتعاون.
ثالثًا: الذب عن أعراض الدعاة والدفاع عن حقوقهم:
إذا كان القيل والقال وتتبُّع الشائعات وانتشار النقد الجارح، من أسباب الفرقة ومثيرات التعصب والخلاف، فإن حُسْن الصلة، والذب عن أعراض الدعاة، والدفاع عنهم.
والانتصار لهم بالحق، من أعظم أسباب الألفة وتقريب وجهات النظر؛ ويتأكد ذلك في مواجهة الاتجاهات العلمانية أو الليبرالية، التي لا ترقب في مؤمن إلًا ولا ذمة.
وأحسب أن هذا ليس من أبواب التفضل أو المنَّة، أو الإدلال على الآخرين؛ بل هو واجب شرعي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"من ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار"[8]. ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه"[9].
ومن الحزبية المقيتة التي تُسْقط المروءة، بَلْهَ العدالة، أن يُؤذَى أحد العلماء، أو يُتَّهم بالباطل، أو تُسلَّط عليه سهام الإعلام الآثمة؛ فيُنْظَر إلى ذلك نظرةً لا مبالاة فيها وبعدم اكتراث؛ بحجة أنه ليس من أصحابه.
بل قد يصل الحال عند بعضهم إلى اللوم والتقريع، وأنَّ ما يحصل له إنما كان بسبب قصوره ومنهجه المضطرب...!
وهذا-والعياذ بالله- من قلة التوفيق، ومن أعظم الخذلان، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"[10].
رابعًا: التنسيق عند النوازل:
التشاور عند النوازل وتدارس المواقف المستجدة، يقرب وجهات النظر، وربما يوحِّد الآراء ويدرأ كثيرًا من اللغط والقيل والقال.
ويتطلب ذلك شعورًا بالمسئولية، وإحساسًا بقيمة الطرف الآخر ومكانته.
وقد جرَّب الدعاة في بعض الدول التنسيق في الانتخابات الطلابية في الجامعات-مثلًا- فوجدوا أن التعاون والتكاتف يحقق نتائج إيجابية للجميع.
كما أن التدابر يفتح الطريق ممهَّدًا للعلمانيين وبقايا الشيوعيين وأعداء الإسلام.
وإذا لم يتحقق التعاون أو التنسيق، فليس أقل من التعايش السلمي بين الإسلاميين، كما يعبِّر عنه أحد المفكرين[11]، أو الحرص على كفِّ الأذى كما يرى كاتب آخر[12].
صحيح أننا إزاء تراكمات تاريخية تتثاقل علينا بآثارها السلبية جيلًا بعد جيل، ولا شك أن اقتلاع الحزبية من جذورها متعذر جدًّا؛ فأمام ذلك عقبات كثيرة، لكن الإحباط واليأس لن يُغيِّرا شيئًا من الواقع، وأرى أننا في أمسِّ الحاجة إلى مبادرات جادة ومخلصة تتحمل تبعات ذلك ولوازمه.
ولعلَّ هذا أحد مقتضيات قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"[13].
ومفتاح النجاح للمقبل على الإصلاح في مدارج هذا الطريق: تجريد القصد لله عز وجل، وتطهير القلب من الأهواء والتطلعات الأخرى، التي تفسد العمل وتذهب بحلاوته.
قال الله تعالى: {إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
وقال سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
الكاتب: الشيخ أحمد الصويان
المصدر: مجلة البيان